فصل: باب مَنْ قَالَ لامْرَأَتِهِ: أَنْتِ عَلَىَّ حَرَامٌ

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: شرح صحيح البخاري لابن بطال ***


باب هَلْ يُوَاجِهُ الرَّجُلُ امْرَأَتَهُ بِالطَّلاقِ

- فيه‏:‏ عَائِشَةَ، أَنَّ ابْنَةَ الْجَوْنِ لَمَّا أُدْخِلَتْ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَدَنَا مِنْهَا، قَالَتْ‏:‏ أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْكَ، فَقَالَ لَهَا‏:‏ ‏(‏لَقَدْ عُذْتِ بِعَظِيمٍ الْحَقِى بِأَهْلِكِ‏)‏‏.‏

- وفيه‏:‏ أَبُو أُسَيْد، قَالَ‏:‏ لَمَّا دَخَلَ عَلَيْهَا النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم قَالَ‏:‏ ‏(‏هَبِى نَفْسَكِ لِى‏)‏، قَالَتْ‏:‏ وَهَلْ تَهَبُ الْمَلِكَةُ نَفْسَهَا لِلسُّوقَةِ‏؟‏ قَالَ‏:‏ فَأَهْوَى بِيَدِهِ يَضَعُ يَدَهُ عَلَيْهَا لِتَسْكُنَ، فَقَالَتْ‏:‏ أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْكَ، فَقَالَ‏:‏ ‏(‏قَدْ عُذْتِ بِمَعَاذٍ‏)‏، ثُمَّ خَرَجَ عَلَيْنَا، فَقَالَ‏:‏ ‏(‏يَا أَبَا أُسَيْدٍ، اكْسُهَا رَازِقِيَّتَيْنِ، وَأَلْحِقْهَا بِأَهْلِهَا‏)‏‏.‏

- قال‏:‏ يُونُسَ بْنِ جُبَيْرٍ، لابْنِ عُمَرَ‏:‏ رَجُلٌ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ، وَهِىَ حَائِضٌ‏؟‏ فَقَالَ‏:‏ أتَعْرِفُ ابْنَ عُمَرَ‏؟‏ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ وَهِىَ حَائِضٌ‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏ الحديث‏.‏

مواجهة الرجل أهله بالطلاق جائز له لحديث عائشة، وفى حديث أبى أسيد أنه، عليه السلام، أمره أن يكسوها ويلحقها بأهلها، وليس فيه مواجهته لها، عليه السلام، بالطلاق، وكلا الأمرين سواء غير أن ترك مواجهة المرأة بالطلاق أرفق وألطف وأيسر فى مراعاة ما جعل الله تعالى بين الزوجين من المودة والرحمة‏.‏

قال الزجاج‏:‏ خلق الله حواء من ضلع آدم، وجعل بين الرجل والمرأة المودة والرحمة‏.‏

قال المهلب‏:‏ وأما أمره، عليه السلام، أن تكسى فهى المتعة التى أمر الله بها للمطلقة غير المدخول بها، وسيأتى مذاهب العلماء فيها بعد هذا‏.‏

وقوله للرجل‏:‏ أتعرف ابن عمر‏؟‏، وهو يخاطبه، إنما هو تقرير على أصل السنة وعلى ناقلها؛ لأنه لازم للعامة الابتداء بمشاهير أهل العلم، فقرره على ما يلزمه من ذلك لا أنه ظن أنه يجهله، وقد قال مثل هذا لرجل سأله عن أم الولد، فقال‏:‏ أتعرف أبا حفص أو عمر، يريد أباه، ولا خفاء به، ثم أخبره بقضيته فى أم الولد إلزامًا له حكمه فيها بإمامته فى الإسلام، لا على أن السائل كان يجهل عمر‏.‏

قال ابن المنذر‏:‏ واختلفوا فى قوله‏:‏ الحقى بأهلك، وحبلك على غاربك، ولا سبيل لى عليك، وما أشبه ذلك من كنايات الطلاق، فقالت طائفة‏:‏ ينوى فى ذلك، فإن أراد طلاقًا كان طلاقًا، وإن لم يرده لم يلزمه شىء، هذا قول الثورى، وأبى حنيفة، قالا‏:‏ إلا إن نوى واحدة أو ثلاثًا، فهو ما نوى، وإن نوى ثنتين فهى واحدة؛ لأنها كلمة واحدة ولا تقع على اثنتين‏.‏

وقال مالك فى قوله‏:‏ الحقى بأهلك، إن أراد به الطلاق فهو ما نوى واحدة أو اثنتين أو ثلاثًا، وإن لم يرد طلاقًا فليس بشىء‏.‏

وقال الحسن والشعبى‏:‏ إذا قال لها‏:‏ الحقى بأهلك، ولا سبيل لى عليك، والطريق لك واسع، إن كان نوى به طلاقًا فهى واحدة وهو أحق بها، وإن لم ينو طلاقًا فليس بشىء‏.‏

وروى عن عمر، وعلى فى قوله‏:‏ حبلك على غاربك، أنهما حلفاه عند الركن على ما أراد وأمضياه، وهو قول أبى حنيفة، وكذلك كل كلام يشبه الفرقة مما أراد به الطلاق، فهو مثل ذلك كقولهم‏:‏ حبلك على غاربك، وقد خليت سبيلك، ولا ملك لى عليك، واخرجى، واستترى، وتقنعى، واعتدى‏.‏

وقال مالك‏:‏ لا ينوى أحد فى‏:‏ حبلك على غاربك؛ لأنه لا يقوله أحد، وقد بقى من الطلاق شيئًا، ولا يلتفت إلى نيته إن قال‏:‏ لم أرد طلاقًا‏.‏

وقال الطحاوى‏:‏ هذا الحديث أصل فى الكنايات عن الطلاق؛ لأن النبى صلى الله عليه وسلم قال لابنة الجون حين طلقها‏:‏ الحقى بأهلك، وقد قال كعب بن مالك لامرأته‏:‏ الحقى بأهلك، حين أمره رسول الله صلى الله عليه وسلم باعتزالها، فلم يكن ذلك طلاقًا، فدل خبر كعب بن مالك على أن هذه اللفظة مفتقرة إلى نية، وأن من قال لامرأته‏:‏ الحقى بأهلك، فإنه لا يقضى فيه إلا بما ينوى اللافظ بها، وإن لم ينو طلاقًا فليس بطلاق، وهذا قول مالك، والكوفيين، والشافعى‏.‏

قال غيره‏:‏ فكذلك سائر الكنايات المحتملات للفراق وغيره‏.‏

وقال ابن حبيب‏:‏ قال ابن القاسم، وابن الماجشون، ومطرف‏:‏ الكنايات المحتملات للطلاق وغيره أن يقول لامرأته‏:‏ اجمعى عليك ثيابك، ولا حاجة لى بك، ولا نكاح بينى وبينك، ولا سبيل لى عليك، ولست منى بسبيل، أو اذهبى لا ملك لى عليك، أو لا تحلين لى، أو احتالى لنفسك، أو أنت سائبة، أو منى عتيقة، أو ليس بينى وبينك حلال ولا حرام، أو لم أتزوجك، أو استترى عنى، أو تقنعى، أو لست لى بامرأة، أو لا تكونى لى بامرأة حتى تكون أمه امرأته، أو يا طالقة، أو اعتزلى، أو تأخرى عنى، أو اخرجى، وشبه ذلك، فكله سواء بنى بها أو لم يبن لا شىء عليه إلا أن ينوى طلاقًا، فله ما نوى بعد أن يحلف على ذلك‏.‏

قال غيره‏:‏ والأصل أن العصمة متيقنة، فلا تزول إلا بنية وقصد؛ لقوله عليه السلام‏:‏ ‏(‏الأعمال بالنيات‏)‏‏.‏

وأما الألفاظ التى ليست من ألفاظ الطلاق، ولا يكنى بها عنه، فأكثر العلماء لا يوقعون بها طلاقًا، وإن قصده القائل‏.‏

وقال مالك‏:‏ كل من أراد الطلاق بأى لفظ كان لزمه الطلاق حتى بقوله‏:‏ كلى، واشربى، وقومى، واقعدى، ونحوه، والحجة له أن الله تعالى جعل الرمز وهو الإشارة كالكلام فى الكناية به عن المراد بقوله‏:‏ ‏(‏أن لا تكلم الناس ثلاثة أيام إلا رمزًا‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 41‏]‏، وكما كان ما فعله المتلاعنان من تلاعنهما وتفرقهما طلاقًا، وإن لم يلفظ به، وكذلك روى فى المختلعة لما ردت عليه الحديقة فأخذها كان طلاقًا‏.‏

باب مَنْ أَجَازَ طَلاقَ الثَّلاثِ

لِقَوْلَهُ عز وجل‏:‏ ‏{‏الطَّلاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 229‏]‏‏.‏

وَقَالَ ابْنُ الزُّبَيْرِ، فِى مَرِيضٍ طَلَّقَ‏:‏ لا أَرَى أَنْ تَرِثَ مَبْتُوتَة‏.‏

وقال الشَّعْبِىُّ‏:‏ تَرِثُهُ‏.‏

وقال ابْنُ شُبْرُمَةَ‏:‏ تَزَوَّجُ إِذَا انْقَضَتِ الْعِدَّةُ، قَالَ‏:‏ نَعَمْ، قَالَ‏:‏ أَرَأَيْتَ إِنْ مَاتَ الزَّوْجُ الآخَرُ، فَرَجَعَ عَنْ ذَلِكَ‏.‏

- فيه‏:‏ أَنَّ سَهْلَ بْنَ سَعْدٍ، أَخْبَرَهُ أَنَّ عُوَيْمِرًا الْعَجْلانِىَّ جَاءَ إِلَى عَاصِمِ ابْنِ عَدِىٍّ الأنْصَارِىِّ، فَقَالَ لَهُ‏:‏ يَا عَاصِمُ، أَرَأَيْتَ رَجُلا وَجَدَ مَعَ امْرَأَتِهِ رَجُلا أَيَقْتُلُهُ فَتَقْتُلُونَهُ أَمْ كَيْفَ يَفْعَلُ‏؟‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏ الحديث‏.‏

فَتَلاعَنَا فَلَمَّا فَرَغَا، قَالَ عُوَيْمِرٌ‏:‏ كَذَبْتُ عَلَيْهَا يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنْ أَمْسَكْتُهَا، فَطَلَّقَهَا ثَلاثًا قَبْلَ أَنْ يَأْمُرَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم‏.‏

قَالَ ابْنُ شِهَابٍ‏:‏ فَكَانَتْ تِلْكَ سُنَّةَ الْمُتَلاعِنَيْنِ‏.‏

- وفيه‏:‏ عَائِشَةَ، أَنَّ امْرَأَةَ رِفَاعَةَ الْقُرَظِىِّ جَاءَتْ إِلَى النَّبِىّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَتْ‏:‏ يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ رِفَاعَةَ طَلَّقَنِى فَبَتَّ طَلاقِى، وَإِنِّى نَكَحْتُ بَعْدَهُ عَبْدَالرَّحْمَنِ بْنَ الزُّبَيْرِ الْقُرَظِىَّ، وَإِنَّمَا مَعَهُ مِثْلُ الْهُدْبَةِ‏.‏

فقَالَ لها النَّبِىّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏لَعَلَّكِ تُرِيدِينَ أَنْ تَرْجِعِى إِلَى رِفَاعَةَ، لا، حَتَّى يَذُوقَ عُسَيْلَتَكِ وَتَذُوقِى عُسَيْلَتَهُ‏)‏‏.‏

- قالت‏:‏ عَائِشَةَ مرةً‏:‏ إِنَّ رَجُلا طَلَّقَ امْرَأَتَهُ ثَلاثًا، فَتَزَوَّجَتْ، فَطَلَّقَ، فَسُئِلَ النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم أَتَحِلُّ لِلأوَّلِ‏؟‏ قَالَ‏:‏ ‏(‏لا، حَتَّى يَذُوقَ عُسَيْلَتَهَا كَمَا ذَاقَ الأوَّلُ‏)‏‏.‏

اتفق أئمة الفتوى على لزوم إيقاع طلاق الثلاث فى كلمة واحدة، فإن ذلك عندهم مخالف للسنة، وهو قول جمهور السلف، والخلاف فى ذلك شذوذ، وإنما تعلق به أهل البدع، ومن لا يلتفت إليه لشذوذه عن الجماعة التى لا يجوز عليها التواطؤ على تحريف الكتاب والسنة، وإنما يروى الخلاف فى ذلك عن السلف الحجاج بن أرطاة، ومحمد بن إسحاق‏.‏

قال أبو يوسف القاضى‏:‏ كان الحجاج بن أرطاة يقول‏:‏ ليس طلاق الثلاث بشىء، وكان ابن إسحاق يقول‏:‏ ترد الثلاث إلى واحدة‏.‏

واحتجوا فى ذلك بما رواه ابن إسحاق، عن داود بن الحصين، عن عكرمة، عن ابن عباس، قال‏:‏ طلق ركانة بن يزيد امرأته ثلاثًا فى مجلس واحد، فحزن عليها حزنًا شديدًا، فسأله النبى، عليه السلام‏:‏ ‏(‏كيف طلقتها‏؟‏‏)‏، قال‏:‏ ثلاثًا فى مجلس واحد، قال‏:‏ ‏(‏إنما تلك واحدة، فارتجعها إن شئت‏)‏، فارتجعها‏.‏

وروى ابن جريج، عن ابن طاوس، عن أبيه، أن أبا الصهباء قال لابن عباس‏:‏ ألم تعلم أن الثلاث كانت على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأبى بكر، وصدرًا من خلافة عمر ترد إلى الواحدة‏؟‏ قال‏:‏ نعم‏.‏

قال الطحاوى‏:‏ هذان حديثان منكران قد خالفهما ما هو أولى منهما، روى سعيد ابن جبير، ومجاهد، ومالك بن الحارث، ومحمد بن إياس بن البكير، والنعمان بن أبى عياش، كلهم عن ابن عباس فيمن طلق امرأته ثلاثًا أنه قد عصى ربه، وبانت منه امرأته ولا ينكحها إلا بعد زوج، روى هذا عن عمر، وعلى، وابن مسعود، وابن عمر، وأبى هريرة، وعمران بن حصين، ذكر ذلك الطحاوى بالأسانيد عنهم‏.‏

وروى ابن أبى شيبة، قال‏:‏ حدثنا وكيع، عن سفيان، عن عمرو بن مرة، عن سعيد ابن جبير، قال‏:‏ جاء رجل إلى ابن عباس، فقال‏:‏ إنى طلقت امرأتى ألفًا، أو قال‏:‏ مائة، قال‏:‏ بانت منك بثلاث، وسائرها اتخذت بها آيات الله هزوًا‏.‏

وما رواه الأئمة عن ابن عباس مما يوافق الجماعة يدل على وهن رواية طاوس عنه، وما كان ابن عباس ليخالف الصحابة إلى رأى نفسه، وقد روى معمر، عن ابن طاوس، عن أبيه، قال‏:‏ كان ابن عباس إذا سُئل عن رجل طلق امرأته ثلاثًا، قال‏:‏ لو اتقيت الله جعل لك مخرجًا‏.‏

هذه الرواية لطاوس، عن ابن عباس تعارض رواية ابن جريج، عن ابن طاوس، عن أبيه؛ لأن من لا مخرج له قد لزمه من الطلاق ما أوقعه، فسقطت رواية ابن جريج، وأيضًا فإن أبا الصهباء الذى سأل ابن عباس عن ذلك لا يعرف فى موالى ابن عباس، وليس تعارض رواية ابن جريج، عن ابن عباس رواية من ذكرنا عن ابن عباس، فصار هذا إجماعًا، وحديث ابن إسحاق منكر خطأ‏.‏

وأما طلاق ركانة زوجته البتة ثلاثًا، كذلك رواه الثقات من أهل بيت ركانة، روى أبو داود، قال‏:‏ حدثنا أحمد بن عمرو بن السرح، وأبو ثور، قالا‏:‏ حدثنا الشافعى، قال‏:‏ حدثنى عمى محمد بن على بن شافع، عن عبد الله بن على بن السائب، عن نافع بن عجير، عن عبد الله بن يزيد بن ركانة، أن ركانة طلق امرأته شهيمة البتة، فأخبر النبى صلى الله عليه وسلم بذلك، فقال‏:‏ ‏(‏ما أردت‏؟‏‏)‏، فقال‏:‏ والله ما أردت إلا واحدة، فردها النبى، عليه السلام، فطلقها الثانية فى زمن عمر، والثالثة فى زمن عثمان‏.‏

قال أبو داود‏:‏ وهذا أصح ما روى فى حديث ركانة‏.‏

وحجة الفقهاء فى جواز طلاق الثلاث فى كلمة قوله فى اللعان‏:‏ فطلقها ثلاثًا قبل أن يأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك، وقبل أن يخبره أنها تطلق عليه باللعان، ولو كان ذلك محظورًا عليه لنهاه رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك، وأعلمه أن إيقاع الثلاث محرم ومعصية، فصح أن إيقاع الثلاث مباح، ولولا ذلك لم يقره النبى، عليه السلام‏.‏

وأما وجه التعلق بحديث رفاعة فى هذا الباب، فقولها‏:‏ إن رفاعة طلقنى فبت طلاقى، فحمله البخارى على أن ذلك كان فى كلمة واحدة، وقد جاء فى الحديث أنها قالت‏:‏ يا رسول الله، إن رفاعة طلقنى آخر ثلاث، ذكره فى كتاب الأدب فى باب التبسم والضحك، فبان أن الثلاث كانت مفترقات، ولم تكن فى كلمة، فلا حجة بهذا الحديث فى هذا الباب، وكذلك ما ذكره عن ابن الزبير فى مريض طلق‏:‏ لا أرى أن ترث مبتوتة، فحمله على ظاهر الكلام، وتأول أن البتة كانت فى كلمة واحدة، ويحتمل أن تكون كانت فى كلمة واحدة أو أكثر منها‏.‏

واختلف العلماء فى قول الرجل‏:‏ أنت طالق البتة، فذكر ابن المنذر، عن عمر بن الخطاب أنها واحدة، وعن سعيد بن جبير مثله‏.‏

وقال عطاء، والنخعى‏:‏ يدين، فإن أراد واحدة فهى واحدة، وإن أراد ثلاثًا فثلاث، وهو قول أبى حنيفة، والشافعى‏.‏

وقالت طائفة فى البتة‏:‏ هى ثلاث، روى ذلك عن على بن أبى طالب، وابن عمر، وعن سعيد ابن المسيب، وعروة، والزهرى، وابن أبى ليلى، ومالك، والأوزاعى، وأبى عبيدة، واحتج الشافعى بحديث ركانة، واحتج مالك بحديث ابن عمر‏:‏ أبت الطلاق طلاق البتة‏.‏

قال ابن المنذر‏:‏ وقد دفع بعض العلماء حديث ركانة، وقال عبد الله بن على بن يزيد ابن ركانة، عن أبيه، عن جده، لا يعرف سماع بعضهم من بعض‏.‏

واختلفوا فى طلاق المريض يموت فى مرضه، فقالت طائفة‏:‏ ترثه ما دامت فى العدة، روى عن عثمان بن عفان أنه ورث امرأة عبد الرحمن بن عوف منه، وكانت فى العدة، وبه قال النخعى، والشعبى، وابن شبرمة، وابن سيرين، وعروة، وهو قول الثورى، والكوفيين، والأوزاعى، وأحد قولى الشافعى‏.‏

وقالت فرقة‏:‏ ترثه بعد العدة ما لم تزوج، روى عن عطاء، والحسن، وابن أبى ليلى، وبه قال أحمد، وإسحاق، وأبى عبيد‏.‏

وقالت فرقة‏:‏ ترثه وإن تزوجت، هذا قول ربيعة، ومالك، والليث، وهو الصحيح عن عثمان، رواه مالك فى الموطأ عن ابن شهاب‏.‏

وقالت فرقة‏:‏ لا ترث مبتوتة بحال، وإن مات فى العدة، كقول ابن الزبير، وهو أحد قولى الشافعى، وبه قال أبو ثور وأهل الظاهر، واحتجوا لقول ابن الزبير بالإجماع على أن الزوج لا يرثها وإن ماتت فى العدة ولا بعد انقضاء العدة إذا طلقها ثلاثًا، وهو صحيح أو مريض، فكذلك الزوجة لا ترثه‏.‏

ومن قال‏:‏ لا ترثه إلا فى العدة، استحال عنده أن ترث المبتوتة فى حال لا ترث فيه الرجعية؛ لأنه لا خلاف بين المسلمين أن من طلق امرأته صحيحًا طلقة يملك فيها رجعتها، ثم انقضت عدتها قبل موته أنها لا ترثه؛ لأنها أجنبية ليست منه ولا هو منها، فلا تكون المبتوتة المختلف فى ميراثها فى العدة أقوى من الرجعية المجتمع على توريثها فى العدة‏.‏

وأما الذين قالوا‏:‏ ترثه بعد العدة ما لم تنكح، فإنهم اعتبروا إجماع المسلمين أنه لا ترث امرأة زوجين فى حال واحد، وقولهم غير صحيح؛ لأنه لا يخلو أن تكون له زوجة بعد انقضاء العدة أو لا تكون له زوجة، فإن كانت له زوجة، فلا يحل لها النكاح للإجماع أن امرأة تكون فى عصمة زوج لا يحل لها نكاح غيره، وإن كانت غير زوجة فمحال أن ترثه وهى زوجة لغيره، ومثل هذه العلة تلزم من قال‏:‏ ترثه بعد العدة وإن تزوجت‏.‏

وأهل هذه المقالة اتهمت المريض بالفرار من ميراث الزوجة والمريض محجور عليه الحكم فى ثلثى ماله بأن ينقص ورثته بأن يدخل عليهم وارثًا، فكذلك هو ممنوع من أن يخرج عنهم وارثًا، كما منع النبى، عليه السلام، الذى قتل وليه ميراثه بسبب ما أحدث من القتل، فكذلك لا ينبغى أن يكون المريض مانعًا زوجته الميراث بسبب ما أحدثه من الطلاق؛ لأن الميراث حق قد ثبت لها بمرضه‏.‏

باب مَنْ خَيَّرَ نِسَاءَهُ

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏يا أيها النبِى قُلْ لأزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا‏}‏ ‏[‏الأحزاب 28‏]‏ الآية - فيه‏:‏ عَائِشَةَ، خَيَّرَنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَاخْتَرْنَا اللَّهَ وَرَسُولَهُ، فَلَمْ يَعُدَّ ذَلِكَ عَلَيْنَا شَيْئًا‏.‏

وَقَالَ مَسْرُوقٌ‏:‏ لا أُبَالِى خَيَّرْتُهَا وَاحِدَةً أَوْ مِائَةً بَعْدَ أَنْ تَخْتَارَنِى‏.‏

قال المؤلف‏:‏ روى مثل قول مسروق عن عمر بن الخطاب، وعلى بن أبى طالب، وابن مسعود، وزيد بن ثابت، وابن عباس، وعائشة، ومن التابعين عطاء، وسليمان بن يسار، وربيعة، وابن شهاب، كلهم قال‏:‏ إذا اختارت زوجها فليس بشىء، وهو قول أئمة الفتوى‏.‏

وروى عن على بن أبى طالب، وزيد بن ثابت‏:‏ إن اختارت زوجها فواحدة، وهو قول الحسن البصرى، والقول الأول هو الصحيح لحديث عائشة‏.‏

قال المهلب‏:‏ والتخيير هو أن يجعل الطلاق إلى المرأة، فإن لم تطلق ما جعل إليها من ذلك، فليس بشىء، وكما أنه إذا جعل طلاق امرأته بيد رجل، فلم يستعمل ما جعل بيده فليس بشىء‏.‏

وقال ابن المنذر‏:‏ وحديث عائشة دلالة على أن المخيرة إذا اختارت زوجها لم يكن ذلك طلاقًا، ويدل على أن اختيارها نفسها يوجب الطلاق؛ لأن فى قولها‏:‏ فاخترناه، فلم يكن طلاقًا دلالة على أنهن لو اخترن أنفسهن كان ذلك طلاقًا، ويدل على معنى ثالث وهو أن المخيرة إذا اختارت نفسها، فهى تطليقة يملك زوجها رجعتها، إذ غير جائز أن يطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم بخلاف أمر الله‏.‏

واختلف العلماء إذا خيرها فاختارت نفسها، فروى عن عمر، وابن مسعود، وابن عباس، أنها واحدة رجعية، وبه قال ابن أبى ليلى، والثورى، والشافعى، وفيها قول ثان‏:‏ إن اختارت نفسها فواحدة بائنة، روى هذا عن على بن أبى طالب، وهو قول أبى حنيفة وأصحابه، وقالت طائفة‏:‏ إن اختارت نفسها فقد طلقت ثلاثًا، روى ذلك عن زيد بن ثابت، وعن الحسن البصرى، وهو قول مالك، والليث، والفرق بين التخيير والتمليك عند مالك أن قول الرجل‏:‏ قد ملكتك، أى قد ملكتك ما جعل الله لى من الطلاق واحدة أو اثنتين أو ثلاثًا، فلما جاز أن يملكها بعض ذلك دون بعض وادعى ذلك، كان القول قوله مع يمينه، وقال فى الخيار‏:‏ إذا اختارت نفسها المدخول بها فهو الطلاق كله، وإن أنكر زوجها فلا يكره له، وإن اختارت واحدة فليس بشىء، وإنما الخيار البتات إما أخذته وإما تركته؛ لأن معنى التخيير التسريح، قال الله تعالى فى آية التسريح‏:‏ ‏(‏فتعالين أمتعكن وأسرحكن سراحًا جميلاً‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 28‏]‏، فمعنى التسريح البتات؛ لأن الله تعالى قال‏:‏ ‏(‏الطلاق مرتان فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 229‏]‏، والتسريح بإحسان هى الطلقة الثالثة‏.‏

قال ابن المنذر‏:‏ وقالت جماعة‏:‏ أمرك بيدك، واختارى، سواء‏.‏

قال الشعبى‏:‏ هو فى قول عمر، وعلى، وزيد بن ثابت سواء، وهو قول النخعى، وحماد، والكوفى، والزهرى، وسفيان الثورى، والشافعى، وأبى عبيد‏.‏

باب إِذَا قَالَ‏:‏ فَارَقْتُكِ، أَوْ سَرَّحْتُكِ، أَوِ الْبَرِيَّةُ، أَوِ الْخَلِيَّةُ، أَوْ مَا عُنِىَ بِهِ الطَّلاقُ فَهُوَ عَلَى نِيَّتِهِ

وَقَوْلُ اللَّهِ تعالى‏:‏ ‏{‏وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحًا جَمِيلا‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 49‏]‏، وَقَالَ‏:‏ ‏(‏وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلا‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 28‏]‏، وَقَالَ‏:‏ ‏(‏فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 229‏]‏، وَقَالَ‏:‏ ‏(‏أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ‏}‏ ‏[‏الطلاق‏:‏ 2‏]‏‏.‏

وقالتْ عَائِشَةُ‏:‏ قَدْ عَلِمَ النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم أَنَّ أَبَوَىَّ لَمْ يَكُونَا يَأْمُرَانِى بِفِرَاقِهِ‏.‏

اختلف قول مالك فيمن قال لامرأته‏:‏ قد فارقتك، أو سرحتك، أو خليت سبيلك، فروى عيسى، عن ابن القاسم، أنها كلها ثلاث فى التى بنى بها إلا أن ينوى أقل، فله نيته ويحلف، وفى التى لم يبن بها حتى ينوى أقل‏.‏

قال ابن المواز‏:‏ وأصح قوليه فى ذلك أنها فى التى لم يبن بها واحدة إلا أن يريد أكثر، وقاله ابن القاسم، وابن عبد الحكم‏.‏

وقال أبو يوسف فى قوله‏:‏ فارقتك، أو خلعتك، أو خليت سبيلك، أو لا ملك لى عليك‏:‏ أنها ثلاثًا ثلاثًا‏.‏

واختلفوا فى الخلية والبرية والبائن، فروى عن على بن أبى طالب أنها ثلاث، وبه قال الحسن البصرى، وروى عن ابن عمر فى الخلية والبرية والبتة‏:‏ هى ثلاث، وعن زيد ابن ثابت فى البرية‏:‏ ثلاث‏.‏

وفيها قول ثان‏:‏ أن الخلية والبرية والبائن ثلاث فى المدخول بها، هذا قول ابن أبى ليلى‏.‏

وقال مالك‏:‏ هى ثلاث فى المدخول بها ويدين فى التى لم يدخل بها تطليقة واحدة أراد أم ثلاثًا، فإن قال‏:‏ واحدة، كان خاطبًا من الخطاب، وقاله ربيعة‏.‏

وقال الثورى وأبو حنيفة‏:‏ نيته فى ذلك، فإن نوى ثلاثًا فهى ثلاث، وإن نوى واحدة فهى واحدة بائنة، وهى أحق بنفسها، وإن نوى ثنتين فهى واحدة‏.‏

وقال الشافعى‏:‏ هو فى ذلك كله غير مطلق حتى يقول‏:‏ أردت بمخرج الكلام منى طلاقًا، فيكون ما نوى، فإن نوى دون الثلاث كان رجعيًا، ولو طلقها واحدة بائنة كانت رجعية‏.‏

وقال إسحاق‏:‏ هو إلى نيته يدين‏.‏

وقال أبو ثور‏:‏ هى تطليقة رجعية، ولا يسئل عن نيته فى ذلك‏.‏

ويمكن أن يكون البخارى أشار إلى قول الكوفيين والشافعى وإسحاق فى قوله‏:‏ أو ما عنى به الطلاق فهو على نيته‏.‏

والحجة لذلك أن كل كلمة تحتمل أن تكون طلاقًا وغير طلاق، فلا يجوز أن يلزم بها الطلاق إلا أن يقر المتكلم أنه أراد بها الطلاق، فيلزمه ذلك بإقراره، ولا يجوز إبطال النكاح؛ لأنهم قد أجمعوا على صحته بيقين‏.‏

وقوله‏:‏ بريت منى، أو بريت منك، وهو من البرية، وكان بعض أصحاب مالك يرى المباراة من البرية ويجعلها ثلاثًا، وتحصيل مذهب مالك أن المباراة من باب الصلح والفدية والخلع، وذلك كله واحدة عندهم بائنة، والحجة لمالك فى قوله‏:‏ قد فارقتك، وسرحتك، وخلية، وبرية، وبائن، أنها ثلاث فى المدخول بها أن هذه الألفاظ مشهورة فى لغة العرب مستعملة فى عرفهم للإبانة وقطع العصمة كالطلاق الثلاث، بل هذه الألفاظ أشهر عندهم وأكثر استعمالاً من قولهم‏:‏ أنت طالق، ولم يرد الشرع بخلافها، وإنما ورد أن يفرق عدد الطلاق، فإن ترك ذلك وأوقع الأصل وقع‏.‏

وأما قوله لعائشة‏:‏ إنى ذاكر لك أمرًا، فلا تعجلى حتى تستأمرى أبويك، ففيه حجة لمن قال‏:‏ إنه إذا خير الرجل امرأته أو ملكها، أن لها أن تقضى فى ذلك وإن افترقا من مجلسهما، روى هذا عن الحسن، والزهرى، وقاله مالك، وروى عن مالك أيضًا أن لها أن تقضى ما لم يوقفها السلطان، وكان قول مالك الأول أن اختيارها على المجلس، وهو اختيار ابن القاسم، وهو قول الكوفيين، والثورى، والأوزاعى، والليث، والشافعى، وأبى ثور‏.‏

قال أبو عبيد‏:‏ والذى عندنا فى هذا اتباع السنة فى عائشة فى هذا الحديث حين جعل لها التأخير إلى أن تستأمر أبويها، ولم يجعل قيامها من مجلسها خروجًا من الأمر‏.‏

وقال المروزى‏:‏ وهذا أصح الأقاويل عندى، وقاله ابن المنذر والطحاوى، وبهذا نقول؛ لأن النبى صلى الله عليه وسلم قد جعل لها الخيار فى المجلس وبعده حتى تشاور أبويها، ولم يقل‏:‏ فلا تستعجلى حتى تستأمرى أبويك فى مجلسك‏.‏

باب مَنْ قَالَ لامْرَأَتِهِ‏:‏ أَنْتِ عَلَىَّ حَرَامٌ

قَالَ الْحَسَنُ‏:‏ بنِيَّتُهُ، وَقَالَ أَهْلُ الْعِلْمِ‏:‏ إِذَا طَلَّقَ ثَلاثًا فَقَدْ حَرُمَتْ عَلَيْهِ فَسَمَّوْهُ حَرَامًا بِالطَّلاقِ وَالْفِرَاقِ وَلَيْسَ هَذَا كَالَّذِى يُحَرِّمُ الطَّعَامَ؛ لأنَّهُ لا يُقَالُ لِلطَعَامِ الْحِلِّ‏:‏ حَرَامٌ، وَيُقَالُ لِلْمُطَلَّقَةِ‏:‏ حَرَامٌ، وَقَالَ فِى الطَّلاقِ ثَلاثًا‏:‏ لا تَحِلُّ لَهُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ‏.‏

وقال اللَّيْثُ‏:‏ حَدَّثَنِى نَافِعٌ، قَالَ‏:‏ كَانَ ابْنُ عُمَرَ إِذَا سُئِلَ عَمَّنْ طَلَّقَ ثَلاثًا، قَالَ‏:‏ لَوْ طَلَّقْتَ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ، فَإِنَّ النَّبِىَّ صلى الله عليه وسلم أَمَرَنِى بِهَذَا، فَإِنْ طَلَّقْتَهَا ثَلاثًا حَرُمَتْ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ‏.‏

- فيه‏:‏ عَائِشَةَ، طَلَّقَ رَجُلٌ امْرَأَتَهُ فَتَزَوَّجَتْ زَوْجًا غَيْرَهُ، فَطَلَّقَهَا وَكَانَتْ مَعَهُ مِثْلُ الْهُدْبَةِ، فَلَمْ تَصِلْ مِنْهُ إِلَى شَىْءٍ تُرِيدُهُ، فَلَمْ يَلْبَثْ أَنْ طَلَّقَهَا، فَأَتَتِ النَّبِىَّ عليه السَّلام فَقَالَتْ‏:‏ يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ زَوْجِى طَلَّقَنِى، وَإِنِّى تَزَوَّجْتُ زَوْجًا غَيْرَهُ، فَدَخَلَ بِى، وَلَمْ يَكُنْ مَعَهُ إِلا مِثْلُ الْهُدْبَةِ، فَلَمْ يَقْرَبْنِى إِلا هَنَةً وَاحِدَةً لَمْ يَصِلْ مِنِّى إِلَى شَىْءٍ، فَأَحِلُّ لِزَوْجِى الأوَّلِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏لا تَحِلِّينَ لِزَوْجِكِ الأوَّلِ، حَتَّى يَذُوقَ الآخَرُ عُسَيْلَتَكِ، وَتَذُوقِى عُسَيْلَتَهُ‏)‏‏.‏

اختلف العلماء فيمن قال لامرأته‏:‏ أنت علىّ حرام، على ثمانية أقوال سوى اختلاف قول مالك، فقالت طائفة‏:‏ هى ثلاث، ولا يسئل عن نيته، روى هذا عن على بن أبى طالب، وزيد بن ثابت، وابن عمر، وبه قال الحسن البصرى فى روايته، والحكم بن عتيبة، وابن أبى ليلى، ومالك، وروى عن مالك وأكثر أصحابه فيمن قال لامرأته قبل أن يدخل بها‏:‏ أنت علىّ حرام، أنها ثلاث إلا أن يقول‏:‏ نويت واحدة‏.‏

وقال عبد العزيز بن أبى سلمة‏:‏ هى واحدة، إلا أن يقول‏:‏ أردت ثلاثًا‏.‏

وقال عبد الملك‏:‏ لا ينوى فيها، وهى ثلاث على كل حال كالمدخول بها‏.‏

وقول آخر قاله سفيان‏:‏ إن نوى ثلاثًا فهى ثلاث، وإن نوى واحدة فهى واحدة بائنة، وإن نوى يمينًا فهى يمين يكفرها، وإن لم ينو فرقة ولا يمينًا فهى كذبة‏.‏

وقول آخر نحو قول الثورى قاله أبو حنيفة وأصحابه، غير أنهم قالوا‏:‏ إن نوى اثنتين فهى واحدة، وإن لم ينو طلاقًا فهى يمين وهو مؤل‏.‏

وقول آخر روى عن ابن مسعود‏:‏ إن نوى طلاقًا فهى تطليقة، وهو أملك بها، وإن لم ينو طلاقًا فهى يمين يكفرها، وعن ابن عمر مثله، وبه قال النخعى وطاوس‏.‏

وقال الشافعى‏:‏ ليس قوله‏:‏ أنت علىّ حرام، بطلاق حتى ينويه، فإن أراد الطلاق فهو على ما أراد من الطلاق، وإن قال‏:‏ أردت تحريمًا بلا طلاق، كان عليه كفارة يمين‏.‏

قال الشافعى‏:‏ وليس بمؤل‏.‏

وقول آخر عن ابن عباس‏:‏ من قال لامرأته‏:‏ أنت حرام، لزمته كفارة الظهار، وهو قول أبى قلابة، وسعيد بن جبير، وبه قال أحمد بن حنبل، واحتج ابن عباس بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏يا أيها النبى لم تحرم ما أحل الله لك‏}‏ ‏[‏التحريم‏:‏ 1‏]‏، ثم قال‏:‏ عليه أغلظ الكفارات عتق رقبة‏.‏

وقول آخر‏:‏ أن الحرام يمين تكفر، روى ذلك عن أبى بكر الصديق، وعمر بن الخطاب، وابن مسعود، وعائشة، وابن عباس، وسعيد بن المسيب، وعطاء، وطاوس، وجماعة، وبه قال الأوزاعى، وأبو ثور، واحتج أبو ثور بأن الحرام ليس من ألفاظ الطلاق بقوله‏:‏ ‏(‏يا أيها النبى لما تحرم ما أحل الله لك‏}‏ ‏[‏التحريم‏:‏ 1‏]‏، ولم يوجب به طلاقًا، وكان حرم على نفسه مارية، ثم قال‏:‏ ‏(‏قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم‏}‏ ‏[‏التحريم‏:‏ 2‏]‏‏.‏

والقول الثامن‏:‏ أن تحريم المرأة كتحريم الماء ليس بشىء، ولا فيه كفارة ولا طلاق؛ لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 87‏]‏، روى ذلك عن الشعبى، ومسروق، وأبى سلمة‏.‏

قال مسروق‏:‏ ما أبالى حرمت امرأتى أو جفنة من ثريد‏.‏

وقال الشعبى‏:‏ أنت علىّ حرام أهون من نعلى‏.‏

وقال أبو سلمة‏:‏ ما أبالى حرمتها أو حرمت الفرات، وهذا القول شذوذ، وعليه بوب البخارى هذا الباب‏.‏

وذهب إلى أن من حرم زوجته أنها ثلاث، والحجة لذلك إجماع العلماء أن من طلق امرأته ثلاثًا أنها تحرم عليه، فلما كانت الثلاث تحريمًا كان التحريم ثلاثًا، وإلى هذه الحجة أشار البخارى فى حديث رفاعة؛ لأنه طلق امرأته وبت طلاقها، فلم تحل له إلا بعد زوج، فحرمت عليه مراجعتها بالثلاث تطليقات، فكذلك من حرم على نفسه امرأته كان كمن طلقها ثلاثًا، ومن قال‏:‏ تلزمه كفارة الظهار، فليس بالبين؛ لأن الله إنما جعل كفارة الظهار للمظاهر خاصة‏.‏

وقال الطحاوى‏:‏ من قال‏:‏ تلزمه كفارة الظهار، كان محمولاً على أنه إن أراد الظهار كان ظهارًا، وإن أراد اليمين كان يمينًا مغلظة على ترتيب كفارة الظهار‏:‏ عتق رقبة، أو صيام شهرين متتابعين، أو إطعام ستين مسكينًا‏.‏

وقال أبو حنيفة، وأبو يوسف، ومحمد‏:‏ لا يكون ذلك ظهارًا، وإن أراده‏.‏

وأما قول الحسن فى الحرام‏:‏ له نيته، فهى رواية أخرى ذكرها عبد الرزاق، عن معمر، عن عمرو، عن الحسن، قال‏:‏ إن نوى طلاقًا فهى طلاق، وإلا فهى يمين، وهو قول ابن مسعود، وابن عمر‏.‏

باب ‏{‏لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ‏}‏ ‏[‏التحريم‏:‏ 1‏]‏

- فيه‏:‏ ابْن عَبَّاس، قَالَ‏:‏ إِذَا حَرَّمَ امْرَأَتَهُ لَيْسَ بِشَىْءٍ، وَقَالَ‏:‏ ‏(‏لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِى رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ‏}‏ ‏[‏الأحزاب 21‏]‏‏.‏

- وفيه‏:‏ عَائِشَةَ، أَنَّ النَّبِىَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَمْكُثُ عِنْدَ زَيْنَبَ بِنْتِ جَحْشٍ، وَيَشْرَبُ عِنْدَهَا عَسَلا، فَتَوَاصَيْتُ أَنَا وَحَفْصَةُ أَنَّ أَيَّتَنَا دَخَلَ عَلَيْهَا النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم، فَلْتَقُلْ‏:‏ إِنِّى أَجِدُ مِنْكَ رِيحَ مَغَافِيرَ، أَكَلْتَ مَغَافِيرَ‏؟‏ فَدَخَلَ عَلَى إِحْدَاهُمَا، فَقَالَتْ لَهُ ذَلِكَ‏:‏ فَقَالَ‏:‏ ‏(‏لا، بَلْ شَرِبْتُ عَسَلا عِنْدَ زَيْنَبَ بِنْتِ جَحْشٍ، وَلَنْ أَعُودَ لَهُ‏)‏، فَنَزَلَتْ‏:‏ ‏(‏يَا أَيُّهَا النَّبِىُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ ‏(‏إِلَى‏:‏ ‏(‏إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ‏}‏ ‏[‏التحريم‏:‏ 4‏]‏ لِعَائِشَةَ وَحَفْصَةَ‏)‏ وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِىُّ إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ‏}‏ ‏[‏التحريم‏:‏ 3‏]‏ بِقَوْلِهِ‏:‏ ‏(‏بَلْ شَرِبْتُ عَسَلا‏)‏‏.‏

أما ما ذكره البخارى عن ابن عباس أنه قال‏:‏ إذا حرم الرجل امرأته فليس بشىء، يعنى فليس بتحريم مؤبد، وعليه كفارة يمين، روى يعلى بن حكيم، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس‏:‏ إذا حرم الرجل امرأته فهى يمين يكفرها، أما لكم فى رسول الله صلى الله عليه وسلم أسوة حسنة‏؟‏ وروى عنه أن عليه كفارة الظهار، وقد تقدم ذلك فى الباب قبل هذا، وتقدم فيه مذاهب الفقهاء فى هذه المسألة‏.‏

وقال الطحاوى‏:‏ روى فى قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لم تحرم ما أحل الله لك‏}‏ ‏[‏التحريم‏:‏ 1‏]‏، أن النبى صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏لن أعود لشرب العسل‏)‏، ولم يذكر يمينًا، فالقول هو الموجب للكفارة، إلا أنه يوجب أن يكون قد كان هناك يمين؛ لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم‏}‏ ‏[‏التحريم‏:‏ 2‏]‏، فدل هذا أنه حلف مع ذلك التحريم‏.‏

وقال زيد بن أسلم فى هذه الآية‏:‏ إنه حلف، عليه السلام، ألا يطأ مارية أم ولده، ثم قال بعد ذلك‏:‏ هى حرام، ثم أمره الله فكفر، فكانت كفارته ليمينه لا لتحريمه‏.‏

قال ابن المنذر‏:‏ والأخبار دالة على أن النبى صلى الله عليه وسلم كان حرم على نفسه شربة من عسل، وحلف على ذلك، فإنما لزمته الكفارة ليمينه لا لتحريمه ما أحل الله له، فلا حجة لمن أوجب فيه كفارة يمين‏.‏

قال المهلب‏:‏ قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يا أيها النبى لم تحرم ما أحل الله لك‏}‏ ‏[‏التحريم‏:‏ 1‏]‏، هذا فيما لم يشرع فيه التحريم من المطاعم وغيرها والإماء، وأما الزوجات فقد شرع الله التحريم فيهن بالطلاق، وبألفاظ أخر مثل الظهار وغيره، فالتحريم فيهن بأى لفظ فهم أو عبر عنه لازم؛ لأنه مشروع، وغير ذلك من الإماء والأطعمة والأشربة، وسائر ما يملك ليس فيه شرع على التحريم، بل التحريم فيه منهى عنه؛ لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏لم تحرم ما أحل الله لك‏}‏ ‏[‏التحريم‏:‏ 1‏]‏، وهذه نعمة أنعم الله بها على محمد وأمته بخلاف ما كان فى سائر الأديان‏.‏

ألا ترى أن إسرائيل حرم على نفسه أشياء، وكان نص القرآن يعطى أن من حرم على نفسه شيئًا أن ذلك التحريم يلزمه، وقد أحل الله ذلك الإلزام إذا كان يمينًا بالكفارة، فإن لم يكن بيمين لم يلزم ذلك التحريم إنعامًا من الله علينا وتخفيفًا عنا‏.‏

وكذلك ألزمنا كل طاعة جعلناها لله على أنفسنا كالمشى إلى بيت الله الحرام، ومسجد الرسول صلى الله عليه وسلم، ومسجد إيلياء، وجهاد الثغور، والصوم، وشبه ذلك ألزمنا هذا، لما فيه لنا من المنفعة، ولم يلزم ما حرمناه على أنفسنا، ألا ترى قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لم تحرم ما أحل الله لك تبتغى مرضات أزواجك‏}‏ ‏[‏التحريم‏:‏ 1‏]‏، فلم يجعل الله تعالى لنبيه، عليه السلام، أن يحرم إلا ما حرم الله،‏)‏ والله غفور رحيم‏}‏ ‏[‏التحريم‏:‏ 1‏]‏، أى قد غفر الله لك ذلك التحريم‏.‏

وفيه من الفقه‏:‏ أن إفشاء السر وما تفعله المرأة مع زوجها ذنب ومعصية تجب التوبة منه؛ لقوله‏:‏ ‏(‏إن تتوبا إلى الله‏}‏ ‏[‏التحريم‏:‏ 4‏]‏، ويحتمل أن يتوبا إلى الله من هذا الذنب، ومن التظاهر عليه فى الغيرة والتواطؤ على منعه ما كان يناله من ذلك الشراب‏.‏

وفيه‏:‏ دليل أن ترك أكل الطيبات لمعنى من معانى الدنيا لا يحل، وإن كان ورعًا وتأخيرًا لها إلى الآخرة كان محمودًا‏.‏

والمغافير شبيه بالصمغ تكون فى الرمث فيه حلاوة تطيب نكهة آكله، يقال‏:‏ أغفر الرمث إذا ظهر فيه، واحدها مغفور‏.‏

وقال صاحب العين‏:‏ جرست النحل العسل تجرسه جرسًا، وهو لحسها إياها‏.‏

والعرفط شجر العضاة، والعضاة كل شجر له شوك، وإذا استيك به كانت له رائحة حسنة تشبه رائحة طيب النبيذ‏.‏

باب قَوْلُ اللَّهِ تعالى‏:‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ‏}‏ ‏[‏الأحزاب 49‏]‏ الآية

وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ‏:‏ جَعَلَ اللَّهُ الطَّلاقَ بَعْدَ النِّكَاحِ‏.‏

وَيُرْوَى فِى ذَلِكَ عَنْ عَلِىٍّ بْنِ أَبِى طَالِب، وَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، وَعُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ، وَأَبِى بَكْرِ بْنِ عَبْدِالرَّحْمَنِ، وَعُبَيْدِاللَّهِ بْنِ عَبْدِاللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ، وَأَبَانَ بْنِ عُثْمَانَ، وَعَلِىِّ بْنِ حُسَيْنٍ، وَشُرَيْحٍ، وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، وَطَاوُسٍ، وَالْحَسَنِ، وَعِكْرِمَةَ، وَعَطَاءٍ، وَعَامِرِ بْنِ سَعْدٍ، وَجَابِرِ بْنِ زَيْدٍ، وَسَالِم، وَنَافِعِ بْنِ جُبَيْرٍ، وَمُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ، وَسُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ، وَمُجَاهِدٍ، وَالْقَاسِمِ بْنِ عَبْدِالرَّحْمَنِ، وَعَمْرِو بْنِ هَرِموٍ، وَالشَّعْبِىِّ‏:‏ أَنَّهَا لا تَطْلُقُ‏.‏

وقال ابن المنذر‏:‏ اختلف العلماء فيمن حلف بطلاق من لم يملك على ثلاثة أقوال، فقالت طائفة‏:‏ لا طلاق قبل نكاح، وهو قول على، وعائشة، وابن عباس، واحتج ابن عباس فى ذلك بقوله‏:‏ ‏(‏يا أيها الذين آمنوا إذا نكحتم المؤمنات‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 49‏]‏ الآية، وقال‏:‏ جعل الله الطلاق بعد النكاح، وعليه جمهور التابعين المذكورين فى هذا الباب، وهو مذهب الشافعى، وأحمد، وإسحاق، وأبى ثور‏.‏

وروى العتبى، عن على بن معبد، عن ابن وهب، عن مالك أنه أفتى رجلاً حلف‏:‏ إن تزوجت فلانة فهى طالق، فتزوجها أنه لا شىء عليه، وقاله ابن وهب، ونزلت بالمخزومى فأتاه مالك بذلك، وروى أبو زيد، عن ابن القاسم مثله، وقال محمد بن عبد الحكم‏:‏ ما أراه حانثًا‏.‏

وقد قال ابن القاسم‏:‏ أمر السلطان ألا يحكم فى ذلك بشىء وتوقف فى الفتيا به آخر أيامه‏.‏

قال محمد‏:‏ وكان عامة مشايخ المدينة لا يرون به بأسًا، وهو قول ابن أبى ذئب، وأما جمهور أصحاب مالك، فلا يرون ذلك‏.‏

وفيها قول ثان وهو إيجاب الطلاق قبل النكاح، روى ذلك عن ابن مسعود، والقاسم، وسالم، والزهرى، وأبى حنيفة، وأصحابه‏.‏

والقول الثالث‏:‏ إذا لم يسم الحالف بالطلاق امرأة بعينها أو قبيلة أو أرضًا وعم فى يمينه تحريم ما أحل الله له، فلا يلزمه ذلك وليتزوج ما شاء، فإن سمى امرأة أو أرضًا أو قبيلة أو ضرب أجلاً يبلغ عمره أكثر منه لزمه الطلاق، وكذلك لو قال‏:‏ كل عبد أملكه حر، فلا شىء عليه؛ لأنه عم، وإن خص جنسًا أو بلدًا أو ضرب أجلاً يبلغ مثله لزمه، هذا قول النخعى، وربيعة، ومالك، وابن أبى ليلى، والليث، والأوزاعى، وذكر مالك فى الموطأ أنه بلغه عن ابن مسعود‏.‏

قال ابن المنذر‏:‏ ومن حجة أهل المقالة الأولى ما رواه ابن أبى ذئب عن عطاء، عن جابر بن عبد الله، قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏لا طلاق قبل نكاح‏)‏‏.‏

قال ابن المنذر‏:‏ وحجة أخرى وهو أنه لما أجمعوا أن من باع سلعة لا يملكها ثم ملكها أن البيع غير لازم له، فكذلك إذا طلق امرأة ثم تزوجها أن الطلاق غير لازم له‏.‏

واحتج الكوفيون بما رواه مالك فى الموطأ أنه بلغه أن عمر بن الخطاب، وعبد الله بن عمر، وابن مسعود، وسالم، والقاسم، وفقهاء المدينة أنهم كانوا يقولون‏:‏ إذا حلف الرجل بطلاق المرأة قبل أن ينكحها، ثم أتم، أن ذلك لازم له إذا نكحها، وتأولوا قوله‏:‏ ‏(‏لا طلاق قبل نكاح‏)‏، أن يقول الرجل‏:‏ امرأة فلان طالق، أو عبد فلان حر، وهذا ليس بشىء، وأما أن يقول‏:‏ إن تزوجت فلانة فهى طالق، فإنما طلقها حين تزوجها وكذلك فى الحرية يريد إن اشتريتك فأنت حرة‏.‏

قالوا‏:‏ ومثله ‏(‏لا نذر لابن آدم فيما لا يملك‏)‏؛ لأنه يحتمل أن يلزمه فيه النذر إذا ملكه، قالوا‏:‏ وأيضًا فقد جاء الحديث‏:‏ ‏(‏لا طلاق إلا بعد نكاح‏)‏، وليس فيه لا عقد طلاق، وهو الذى أجزناه وشبهه لعلة الاحتباس أنه يجوز فيها الصدقة من قبل أن تخلق فى ملكه‏.‏

واحتج الأبهرى لقول مالك، فقال‏:‏ إذا سمى امرأة أو قبيلة أو بلدة، فإنه يلزمه عقد الطلاق؛ لأنه ليس بعاص فى هذا العقد، وكل من عقد عقدًا ليس بعاص فيه، فالعقد له لازم وعليه الوفاء به؛ لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏أوفوا بالعقود‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 1‏]‏، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏يوفون بالنذر‏}‏ ‏[‏الإنسان‏:‏ 7‏]‏، والنذر فى لسان العرب إيجاب المرء على نفسه شيئًا، وإن لم يكن فى ملكه، يدل على ذلك قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ومنهم من عاهد الله لئن آتانا من فضله‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 75‏]‏ الآية، فثبت بهذا أنه يلزمه ما ألزم نفسه وإن لم يكن فى ملكه، ومخالفنا يقول‏:‏ إن أوجب على نفسه نذر عتق أو صدقة درهم قبل ملكه أن ذلك يلزمه، فكذلك عقد الطلاق، فأما إذا عم النساء، فإن ذلك معصية؛ لأنه قصد منع نفسه النكاح الذى أباحه الله له، فلا يصح عقده؛ لقوله عليه السلام‏:‏ ‏(‏من أحدث فى أمرنا ما ليس منه فهو رد‏)‏‏.‏

باب إِذَا قَالَ لامْرَأَتِهِ وَهُوَ مُكْرَهٌ‏:‏ هَذِهِ أُخْتِى، فَلا شَىْءَ عَلَيْهِ

قَالَ النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِسَارَةَ‏:‏ هَذِهِ أُخْتِى، وَذَلِكَ فِى ذَاتِ اللَّهِ‏)‏‏.‏

إنما أراد البخارى بهذا التبويب، والله أعلم، رد قول من نهى عن أن يقول الرجل لامرأته‏:‏ يا أختى؛ لأنه قد روى عبد الرزاق، عن الثورى، عن خالد الحذاء، عن أبى تميمة الهجيمى، قال‏:‏ مرَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم على رجل وهو يقول لامرأته‏:‏ يا أُخية، فزجره، ومعنى كراهة ذلك، والله أعلم، خوف ما يدخل على من قال لامرأته‏:‏ يا أختى، أو أنت أختى، أنه بمنزلة من قال‏:‏ أنت علىَّ كظهر أمى أو كظهر أختى فى التحريم إذا قصد إلى ذلك، فأرشده النبى صلى الله عليه وسلم إلى اجتناب الألفاظ المشكلة التى يتطرق بها إلى تحريم المحلات، وليس يعارض هذا بقول إبراهيم فى زوجته‏:‏ هذه أختى؛ لأنه إنما أراد بها أخته فى الدين والإيمان، فمن قال لامرأته‏:‏ يا أختى، وهو ينوى ما نواه إبراهيم من أخوة الدين، فلا يضره شيئًا عند جماعة العلماء‏.‏

باب الطَّلاقِ فِى الإغْلاقِ، وَالْكُرْهِ، وَالسَّكْرَانِ، وَالْمَجْنُونِ، وَأَمْرِهِمَا، وَالْغَلَطِ، وَالنِّسْيَانِ فِى الطَّلاقِ، وَالشِّرْكِ وَغَيْرِهِ

لِقَوْلِ النَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ الأعْمَالُ بِالنِّيَّةِ وَلِكُلِّ امْرِئٍ مَانَوَى وَتَلا الشَّعْبِىُّ‏:‏ ‏(‏لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 286‏]‏، وَمَا لا يَجُوزُ مِنْ إِقْرَارِ الْمُوَسْوِسِ‏.‏

وقال النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم لِلَّذِى أَقَرَّ عَلَى نَفْسِهِ بِالزِّنَا‏:‏ ‏(‏أَبِكَ جُنُونٌ‏)‏‏؟‏ وَقَالَ عَلِىٌّ‏:‏ بَقَرَ حَمْزَةُ خَوَاصِرَ شَارِفَىَّ، فَطَفِقَ النَّبِىُّ عليه السَّلام يَلُومُ حَمْزَةَ، فَإِذَا حَمْزَةُ قَدْ ثَمِلَ مُحْمَرَّةٌ عَيْنَاهُ، ثُمَّ قَالَ حَمْزَةُ‏:‏ هَلْ أَنْتُمْ إِلا عَبِيدٌ لأبِى‏؟‏ فَعَرَفَ النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَدْ ثَمِلَ، فَخَرَجَ وَخَرَجْنَا مَعَهُ‏.‏

وقال عُثْمَانُ‏:‏ لَيْسَ لِمَجْنُونٍ وَلا لِسَكْرَانَ طَلاقٌ‏.‏

وقال ابْنُ عَبَّاسٍ‏:‏ طَلاقُ السَّكْرَانِ وَالْمُسْتَكْرَهِ لَيْسَ بِجَائِزٍ‏.‏

وقال عُقْبَةُ ابْنُ عَامِرٍ‏:‏ لا يَجُوزُ طَلاقُ الْمُوَسْوِسِ‏.‏

وقال عَطَاءٌ‏:‏ إِذَا بَدَأ بِالطَّلاقِ فَلَهُ شَرْطُهُ‏.‏

وقال نَافِعٌ‏:‏ طَلَّقَ رَجُلٌ امْرَأَتَهُ الْبَتَّةَ إِنْ خَرَجَتْ‏.‏

فَقَالَ ابْنُ عُمَرَ‏:‏ إِنْ خَرَجَتْ، فَقَدْ بُتَّتْ مِنْهُ، وَإِنْ لَمْ تَخْرُجْ فَلَيْسَ بِشَىْءٍ‏.‏

وقال الزُّهْرِىُّ فِيمَنْ قَالَ‏:‏ إِنْ لَمْ أَفْعَلْ كَذَا وَكَذَا فَامْرَأَتِى طَالِقٌ ثَلاثًا، يُسْأَلُ عَمَّا قَالَ، وَعَقَدَ عَلَيْهِ قَلْبُهُ حِينَ حَلَفَ بِتِلْكَ الْيَمِينِ، فَإِنْ سَمَّى أَجَلا أَرَادَهُ وَعَقَدَ عَلَيْهِ قَلْبُهُ حِينَ حَلَفَ جُعِلَ ذَلِكَ فِى دِينِهِ وَأَمَانَتِهِ‏.‏

وقال إِبْرَاهِيمُ‏:‏ إِنْ قَالَ لا حَاجَةَ لِى فِيكِ نِيَّتُهُ، وَطَلاقُ كُلِّ قَوْمٍ بِلِسَانهِمْ‏.‏

وقال قَتَادَةُ‏:‏ إِذَا قَالَ‏:‏ إِذَا حَمَلْتِ فَأَنْتِ طَالِقٌ ثَلاثًا، يَغْشَاهَا عِنْدَ كُلِّ طُهْرٍ مَرَّةً، فَإِنِ اسْتَبَانَ حَمْلُهَا، فَقَدْ بَانَتْ مِنْهُ‏.‏

وقال الْحَسَنُ‏:‏ إِذَا قَالَ‏:‏ الْحَقِى بِأَهْلِكِ نِيَّتُهُ‏.‏

قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ‏:‏ الطَّلاقُ عَنْ وَطَرٍ، وَالْعَتَاقُ مَا أُرِيدَ بِهِ وَجْهُ اللَّهِ‏.‏

وقال الزُّهْرِىُّ‏:‏ إِنْ قَالَ مَا أَنْتِ بِامْرَأَتِى نِيَّتُهُ، وَإِنْ نَوَى طَلاقًا فَهُوَ مَا نَوَى‏.‏

وقال عَلِىٌّ بْنِ أَبِى طَالِبٍ‏:‏ أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ الْقَلَمَ رُفِعَ عَنْ ثَلاثَةٍ‏:‏ عَنِ الْمَجْنُونِ حَتَّى يُفِيقَ، وَعَنِ الصَّبِىِّ حَتَّى يُدْرِكَ، وَعَنِ النَّائِمِ حَتَّى يَسْتَيْقِظَ‏.‏

وقال عَلِىٌّ‏:‏ كُلُّ طَّلاقِ جَائِزٌ إِلا طَلاقَ الْمَعْتُوهِ‏.‏

وقال قَتَادَة‏:‏ إِذَا طَلَّقَ فِى نَفْسِهِ فَلَيْسَ بِشَىْءٍ‏.‏

- وفيه‏:‏ أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ النَّبِىّ، عَلَيْهِ السَّلام‏:‏ ‏(‏إِنَّ اللَّهَ تَجَاوَزَ عَنْ أُمَّتِى مَا حَدَّثَتْ بِهِ أَنْفُسَهَا، مَا لَمْ تَعْمَلْ أَوْ تَتَكَلَّمْ‏)‏‏.‏

- وفيه‏:‏ جَابِر، أَنَّ رَجُلا أَتَى النَّبِىَّ عليه السَّلام وَهُوَ فِى الْمَسْجِدِ، فَقَالَ‏:‏ إِنَّهُ قَدْ زَنَى، فَأَعْرَضَ عَنْهُ فَتَنَحَّى لِشِقِّهِ الَّذِى أَعْرَضَ عنه فَشَهِدَ عَلَى نَفْسِهِ أَرْبَعًا، فَدَعَاهُ، فَقَالَ‏:‏ ‏(‏هَلْ بِكَ جُنُونٌ‏؟‏ هَلْ أَحْصَنْتَ‏)‏‏؟‏ قَالَ‏:‏ نَعَمْ، فَأَمَرَ بِهِ أَنْ يُرْجَمَ بِالْمُصَلَّى، فَلَمَّا أَذْلَقَتْهُ الْحِجَارَةُ جَمَزَ حَتَّى أُدْرِكَ بِالْحَرَّةِ فَقُتِلَ‏.‏

- وفيه‏:‏ أَبُو هُرَيْرَةَ مثله، إلا أنه زاد‏:‏ فَأَعْرَضَ عَنْهُ أربعًا، فَلَمَّا شَهِدَ عَلَى نَفْسِهِ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ، فَقَالَ‏:‏ ‏(‏هَلْ بِكَ جُنُونٌ‏)‏‏؟‏ قَالَ‏:‏ لا، فَقَالَ النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏اذْهَبُوا بِهِ فَارْجُمُوهُ‏.‏‏.‏‏.‏‏)‏ الحديث‏.‏

تأويل الإغلاق عند العلماء الإكراه، قال أبو عبيد‏:‏ الإغلاق التضييق، فإذا ضيق على المكره وشدد عليه حتى طلق لم يقع حكم طلاقه، فكأنه لم يطلق‏.‏

واختلفوا فى طلاق المكره على ما يأتى ذكره فى كتاب الإكراه، ونذكر منه هاهنا طرفًا قال مالك، والأوزاعى، والشافعى‏:‏ لا يلزم‏.‏

وقال الكوفيون‏:‏ طلاق المكره لازم‏.‏

واحتج أهل المقالة الأولى بقوله‏:‏ ‏(‏الأعمال بالنيات‏)‏، وبما رواه الأوزاعى، عن عطاء، عن عبيد بن عمير، عن ابن عباس، أن النبى صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏تجاوز الله لأمتى الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه‏)‏، واحتجوا بقوله‏:‏ ‏(‏إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 106‏]‏، فنفى الكفر باللسان إذا كان القلب مطمئنًا بالإيمان، فكذلك الطلاق إذا لم يرده ولم ينوه بقلبه لم يلزمه، ولذلك قال عطاء‏:‏ الشرك أعظم من الطلاق‏.‏

قال الطحاوى‏:‏ التجاوز معناه العفو عن الإثم؛ لأن العفو عن الطلاق والعتاق لا يصح؛ لأنه غير مذنب فيعفى عنه، قال‏:‏ وكما ثبت له حكم الوطء بالإكراه، فيحرم به على الواطئ ابنة المرأة وأمها، فكذلك القول لا يمنع من وقوع ما طلق‏.‏

واختلفوا فى طلاق السكران، فأجازته طائفة ذكره ابن وهب، عن عمر بن الخطاب، ومعاوية بن أبى سفيان، وجماعة من التابعين منهم‏:‏ سعيد بن المسيب، وسليمان بن يسار، وعطاء، والقاسم، وسالم، وذكره ابن المنذر، عن الحسن، وابن سيرين، والنخعى، والشعبى، وهو قول مالك، وأبى حنيفة، والأوزاعى، والثورى‏.‏

واختلف فيه قول الشافعى، فأجازه مرة ومنع منه أخرى، وألزمه مالك الطلاق والقود من الجراح والقتل، ولم يلزمه النكاح والبيع‏.‏

وقال الكوفيون‏:‏ أقوال السكران وعقوده كلها ثابتة كأفعال الصاحى إلا الردة، فإذا ارتد فإنه لا تبين منه امرأته استحسانًا‏.‏

وقال أبو يوسف‏:‏ يكون مرتدًا فى حال سكره‏.‏

وهو قول الشافعى إلا أن لا نقتله فى حال سكره ولا نستتيبه‏.‏

وقالت طائفة‏:‏ لا يجوز طلاق السكران، روى ذلك عن عثمان بن عفان، وابن عباس، وعن عطاء، وطاوس، والقاسم، وربيعة، وهو قول الليث، وإسحاق، وأبى ثور، والمزنى، واختاره الطحاوى، وقال‏:‏ أجمع العلماء على أن طلاق المعتوه لا يجوز، فالسكران معتوه بسكره كالموسوس معتوه بالوسواس، ولا يختلفون أن من شرب البنج، فذهب عقله أن طلاقه غير جائز، فكذلك من سكر من الشراب‏.‏

ولا يختلف حكم فقدان العقل بسبب من الله أو بسبب من أجله، ألا ترى أنه لا فرق بين من عجز عن القيام فى الصلاة بسبب من الله أو من قبل نفسه بأن يكسر رجل نفسه فى باب سقوط فرض القيام عنه‏.‏

واحتج أهل المقالة الأولى، وفرقوا بين المجنون والسكران، قال عطاء‏:‏ ليس السكران كالمغلوب على عقله؛ لأن السكران أتى ما أتى، وهو يعلم أنه يقول ما لا يصلح‏.‏

قال غيره‏:‏ ألا ترى أن المجنون لا يقضى ما فاته من صلاته فى حال جنونه، ويلزم السكران ذلك فافترقا، وذكر ابن المنذر أن بعض أهل العلم رد هذا القول، فقال‏:‏ ليس فى احتجاج من احتج بأن الصلاة تلزم السكران ولا تلزم المجنون حجة؛ لأن الصلاة قد تلزم النائم ولا تلزم المجنون، ولو طلق رجل فى حال نومه، وطلق آخر فى حال جنونه، لم يقع طلاق واحد منهما‏.‏

وفى قولهم‏:‏ إن السكران إذا ارتد لم يستتب فى حال سكره ولم يقتل، دليل على أن لا حكم لقوله، ورد المهلب هذا القول، فقال‏:‏ معلوم فى الأغلب من الحال أن السكران إذا طلق لم يذهب جميع عقله، والدليل على ذلك أنه أوقع الطلاق، فقد نطق بكلام مفهوم، وقد شرط الله فى حد السكران الذى تبطل الصلاة به وغيرها أن لا يعلم ما يقول، وهذا المطلق يعلم ما يقول، وقصد بالطلاق معنى معلومًا فى السنة، واستدللنا أنه علم ما قال؛ لأنه قاله لمن لا يقال إلا له فصح قصده الطلاق، فوجب إلزامه له‏.‏

قال ابن القصار‏:‏ إن شرب السكران للتداوى جائز، ولا حد فى السكر منه كما هو فى الخمر، فلا يقع طلاقه‏.‏

فيقال لهم‏:‏ إن شرب الدواء لغير مصلحة، ولكن ليزيل عقله، فإن طلاقه عندنا يقع‏.‏

قال المهلب‏:‏ ولا حجة لمن لم يجز طلاق السكران فى حديث حمزة حين سكر؛ لأن الخمر حينئذ كانت مباحة، فلذلك سقط عنه حكم ما نطق به فى حال سكره، وهذه القصة كانت سبب تحريم الخمر، فليس يجب أن نحكم بما كان قبل تحريم الخمر على ما كان بعد تحريمها؛ لاختلاف الحكم فى ذلك، وقد ذكرت فى كتاب الأشربة، فى باب ما جاء أن الخمر ما خامر العقل اختلاف العلماء فى حد السكر الموجب للحد ما هو‏.‏

قال ابن المنذر‏:‏ وأجمع العلماء على أن طلاق المعتوه والمجنون لا يلزم وقد احتج فى ذلك على بن أبى طالب فى هذا الباب بما فيه مقنع‏.‏

قال مالك‏:‏ وكذلك المجنون الذى يفيق أحيانًا يطلق فى حال جنونه، والمبرسم قد رفع عنه القلم لغلبة العلم أنه فاسد المقاصد، وأن أفعاله وأقواله مخالفة لرتبة العقل‏.‏

قال المهلب‏:‏ ومعنى قوله عليه السلام‏:‏ ‏(‏أبك جنون‏)‏، يعنى فى بعض أوقاتك، ولو أراد أبك جنون الدهر كله ما وثق بقوله أن به جنونًا، وإنما معناه أبك جنون فى غير هذا الوقت، فيكون قولك‏:‏ إنك قد زنيت فى وقت ذلك الجنون، وإنما طلب شبهة يدرأ عنه الحد بها؛ لأن المجنون إنما يحمل أمره على فقد العقل وفساد المقاصد فى وقت جنونه، والسكران أصله العقل، والسكر إنما هو طارئ على عقله، فما وقع منه من كلام مفهوم فهو محمول على أصل عقله حتى ينتهى إلى فقدان عقله‏.‏

واختلفوا فى الخطأ والنسيان فى الطلاق، فقالت طائفة‏:‏ من حلف على أمر أن لا يفعله بالطلاق ففعله ناسيًا لم يحنث، هذا قول عطاء، وهو أحد قولى الشافعى، وبه قال إسحاق، وروى عن نافع فيمن حلف بالطلاق وهو لا يريده فسبقه لسانه يدين فيما بينه وبين الله تعالى، وكذلك قال الشافعى فيمن غلبه لسانه بغير اختيار منه، فقوله كلا قول، ولا يلزمه طلاق ولا غيره‏.‏

وروى عن الشعبى، وطاوس فى الرجل يحلف على الشىء، فيخرج على لسانه غير ما يريد له نيته، وحققه أحمد‏.‏

وقال الحكم‏:‏ يؤخذ بما تكلم به، وممن أوجب عليه الحنث مكحول، وعمر بن عبد العزيز، وقتادة، وربيعة، والزهرى، وهو قول مالك، والثورى، والكوفيين، وابن أبى ليلى، والأوزاعى‏.‏

وحجة من لم يوجب الحنث عليه قوله‏:‏ ‏(‏الأعمال بالنيات‏)‏، والناسى لا نية له، وقوله‏:‏ ‏(‏إن الله رفع عن أمتى الخطأ والنسيان وما أكرهوا عليه‏)‏‏.‏

واحتج الذين أوجبوا الحنث، فقالوا‏:‏ معنى رفع الخطأ والنسيان إنما هو فى الإثم بينك وبين الله‏.‏

وأما فى حقوق العباد، فلازمة فى الخطأ والنسيان، فى الدماء والأموال، وإنما يسقط فى قتل الخطأ ما كان يجب لله من عقوبة أو قصاص، ووقع فى كثير من النسخ، والنسيان فى الطلاق والشرك وهو خطأ، والصواب والشك مكان الشرك‏.‏

واختلف العلماء فى الشك فى الطلاق، فأوجب الطلاق بالشك مالك، وقال الأوزاعى، وسعيد بن عبد العزيز‏:‏ أفرق بالشك ولا أجمع بالشك، وممن لم يوجب الطلاق بالشك ربيعة، والشافعى، وأحمد، وإسحاق‏.‏

وقال الشافعى، وأحمد، وإسحاق‏:‏ من شك فلم يدر أطلق واحدة أو اثنتين أو ثلاثًا وجبت عليه واحدة، وهى عنده حتى يستيقن، ولا يجوز عندهم أن يرفع يقين النكاح بشك الحنث، وإلى هذا أشار البخارى‏.‏

وأما قول عطاء‏:‏ إذا بدأ بالطلاق فله شرطه، وقول نافع‏:‏ إذا طلق رجل امرأته البتة إن خرجت، وقول الزهرى فيمن قال‏:‏ إن لم أفعل كذا وكذا فامرأتى طالق، فسيأتى فى كتاب الطلاق‏.‏

وأما قول إبراهيم‏:‏ إن قال‏:‏ لا حاجة لى فيك، نيته، فهو قول أصحاب مالك، قالوا‏:‏ إن أراد بذلك الطلاق لزمه ما أراد منه، وإن لم يرد طلاقًا أحلف ودين، وقوله‏:‏ طلاق كل قوم بلسانهم، فالعلماء مجمعون أن العجمى إذا طلق بلسانه وأراد الطلاق أنه يلزمه؛ لأنهم وسائر الناس فى أحكام الله سواء‏.‏

وأما قول قتادة‏:‏ إذا حملت فأنت طالق يغشاها فى كل طهر مرة، فإن استبان حملها فقد بانت منه، فهو قول ابن الماجشون، وحكى مثله ابن المواز، عن أشهب، قال فى قوله‏:‏ إذا حملت وإذا حضت وإذا وضعت ليس بأجل، ولا شىء عليه حتى يكون ما شرط، وهو قول الثورى، والكوفيين، والشافعى، قالوا‏:‏ وسواء كان مما هو غيب لا يعلم أو مما يعلم نحو قوله‏:‏ إن ولدت وإذا أمطرت السماء وإذا جاء رأس الهلال، فإنه لا يقع الطلاق إلا بوجود الوقت والشرط‏.‏

وقال ابن القاسم فى قوله‏:‏ إذا حملت فأنت طالق، لا يمنع من وطئها فى ذلك الطهر مرة فقط، ثم يطلق إذا وطئها حينئذ، ولو كان قد وطئها فيه قبل مقالته طلقت مكانها ويصير كالذى قال لزوجته‏:‏ إن كنت حاملاً فأنت طالق، وإن لم يكن بك حمل فأنت طالق، فإنها تطلق مكانها ولا ينتظر اختبارها أبها حمل أم لا، إذ لو ماتا لم يتوارثا، وكذلك قوله لغير حامل‏:‏ إذا حملت فوضعت فأنت طالق، أو قال‏:‏ إذا وضعت فقط فأنت طالق، وإن وطئ فى ذلك الطهر وإلا إذا وطئ مرة طلقت‏.‏

وقال ابن أبى زيد‏:‏ اختلف فيه قول مالك‏.‏

وقال الطحاوى‏:‏ لا يختلفون فيمن أعتق عبده، إذا كان هذا لما هو كائن لا محالة أو لما قد يكون، وقد لا يكون أنهما سواء ولا يعتق حتى يكون الشرط فكذلك الطلاق‏.‏

وقول الزهرى‏:‏ إن قال‏:‏ ما أنت بامرأتى، نيته، فإن نوى طلاقًا فهو ما نوى، فهو قول مالك، وأبى حنيفة، والأوزاعى‏.‏

وقال الليث‏:‏ هى كذبة‏.‏

وقال أبو يوسف ومحمد‏:‏ ليس بطلاق‏.‏

وقول قتادة‏:‏ فإذا طلق فى نفسه فليس بشىء، هو قول جماعة أئمة الفتوى، واختلف فيه قول مالك، فذكر عنه ابن المواز أن من عقد طلاقًا بقلبه ولم يلفظ به لسانه فإنه لا يقع، وهذا الأظهر من مذهبه، وروى عنه أشهب فى العتبية أنها تطلق عليه، وهذا قول ابن سيرين وابن شهاب، وقال ابن سيرين‏:‏ إذا طلق فى نفسه أليس قد علمه الله تعالى، وحجة الجماعة قوله‏:‏ ‏(‏إن الله تجاوز عن أمتى ما حدثت به أنفسها ما لم تعمل أو تكلم‏)‏، فجعل ما لم ينطق به اللسان لغوًا لا حكم له، حتى إذا تكلم به يقع الجزاء عليه ويلزم المتكلم‏.‏

وقال ابن المنذر‏:‏ وكذلك قوله‏:‏ ‏(‏الأعمال بالنيات‏)‏، فجعل الأعمال مقرونة بالنيات، ولو كان حكم من أضمر فى نفسه شيئًا حكم المتكلم، كان حكم من حدث نفسه فى الصلاة بشىء متكلمًا، وفى إجماعهم على أن ذلك ليس بكلام مع قوله، عليه السلام‏:‏ ‏(‏من صلى صلاة لا يحدث فيها نفسه غفر له‏)‏، دليل على أن حديث النفس لا يقوم مقام الكلام، وأجمعوا أن من حدث نفسه بالقذف غير قاذف، وكذلك اختلفوا فيمن كتب إلى امرأته بالطلاق من غير لفظ به، فأوجب قوم الطلاق بالكتابة، هذا قول النخعى، والشعبى، والحكم، والزهرى، ومحمد بن الحسن، واحتج الزهرى فى أن الكتاب كلام بقوله‏:‏ ‏(‏فأوحى إليهم أن سبحوا بكرة وعشيا‏}‏ ‏[‏مريم‏:‏ 11‏]‏، قال‏:‏ كتب لهم، وهو قول أحمد بن حنبل إذا كتب طلاق امرأته بيده فقد لزمه؛ لأنه عمل بيده‏.‏

وقالت طائفة‏:‏ إن أنفذ الكتاب إليها نفذ الطلاق، روى ذلك عن عطاء، والحسن، وقتادة، وقال مالك والأوزاعى‏:‏ إذا كتب إليها وأشهد على كتابه، ثم بدا له، فله ذلك ما لم يوجه إليها بالكتاب، فإذا وجهه فقد طلقت فى ذلك الوقت، إلا أن ينوى أنها لا تطلق عليه حتى يبلغ كتابه‏.‏

وقوله‏:‏ أذلقته الحجارة، قال صاحب الأفعال‏:‏ أذلقته، يقال‏:‏ أذلق الرجل غيره أخرقه بطعنة أو حجر يضربه به، وقد تقدم تفسير الحرة فى كتاب الصيام‏.‏

وقوله‏:‏ جمز، يعنى وثب، وفى كتاب الأفعال‏:‏ جمز الفرس جمزًا وأجمز وثب، فاستعير الجمز للإنسان بمعنى الوثب، وجمز الإنسان أسرع فى مشيه‏.‏

باب الْخُلْعِ وَكَيْفَ الطَّلاقُ فِيه

وقوله‏:‏ ‏(‏وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 229‏]‏ الآية وَأَجَازَ عُمَرُ الْخُلْعَ دُونَ السُّلْطَانِ، وَأَجَازَ عُثْمَانُ الْخُلْعَ دُونَ عِقَاصِ رَأْسِهَا، وَقَالَ طَاوُسٌ‏:‏ ‏(‏إِلا أَنْ يَخَافَا أَلا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 229‏]‏‏:‏ فِيمَا افْتَرَضَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى صَاحِبِهِ فِى الْعِشْرَةِ وَالصُّحْبَةِ، وَلَمْ يَقُلْ قَوْلَ السُّفَهَاءِ لا يَحِلُّ حَتَّى تَقُولَ‏:‏ لا أَغْتَسِلُ لَكَ مِنْ جَنَابَةٍ‏.‏

- وفيه‏:‏ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّ امْرَأَةَ ثَابِتِ بْنِ قَيْسٍ أَتَتِ النَّبِىَّ عليه السَّلام فَقَالَتْ‏:‏ يَا رَسُولَ اللَّهِ، ثَابِتُ بْنُ قَيْسٍ مَا أَعْتِبُ عَلَيْهِ فِى خُلُقٍ وَلا دِينٍ، وَلَكِنِّى أَكْرَهُ الْكُفْرَ فِى الإسْلامِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏أَتَرُدِّينَ عَلَيْهِ حَدِيقَتَهُ‏)‏‏؟‏ قَالَتْ‏:‏ نَعَمْ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏اقْبَلِ الْحَدِيقَةَ، وَطَلِّقْهَا تَطْلِيقَةً‏)‏‏.‏

قَالَ أَبُو عَبْد اللَّهِ‏:‏ لا يُتَابَعُ فِيهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ‏.‏

- وعن عِكْرِمَةَ، أَنَّ أُخْتَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَىٍّ- بِهَذَا- ولم يذكر ابْن عَبَّاس‏.‏

- وقال عِكْرِمَةَ‏:‏ أَنَّ جَمِيلَةَ‏.‏‏.‏‏.‏ الحديث‏.‏

قال ابن المنذر‏:‏ قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولا يحل لكم أن تأخذوا مما آتيتموهن‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 229‏]‏ الآية، فحرم الله على الزوج أن يأخذ من امرأته شيئًا مما أتاها الله إلا بعد الخوف الذى ذكره الله، ثم أكد ذلك بتغليظ الوعيد على من تعدى أو خالف أمره، فقال‏:‏ ‏(‏تلك حدود الله فلا تعتدوها‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 229‏]‏، وبمعنى كتاب الله جاءت سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فى جميلة امرأة ثابت بن قيس حين قالت‏:‏ يا رسول الله، إنى لا أعتب عليه فى خلق ولا دين، ولكن أكره الكفر فى الإسلام لا أطيقه بغضًا‏.‏

رواه قتادة، عن عكرمة، عن ابن عباس‏.‏

وروى معتمر بن سليمان، عن فضيل، عن ابن أبى جرير، عن عكرمة، عن ابن عباس، قال‏:‏ أول خلع فى الإسلام أخت عبد الله بن أبى، أتت النبى، عليه السلام، فقالت‏:‏ يا رسول الله، لا تجتمع رأسى ورأسه أبدًا، إنى رفعت جانب الخباء، فرأيته أقبل فى عدة، فإذا هو أشدهم سوادًا، وأقصرهم قامة، وأقبحهم وجهًا، فقال‏:‏ ‏(‏أتردين عليه حديقته‏؟‏‏)‏، قالت‏:‏ نعم، وإن شاء زدته، ففرق بينهما‏.‏

وهذا الحديث أصل فى الخلع، وعليه جمهور الفقهاء، قال مالك‏:‏ ولم أزل أسمع ذلك من أهل العلم، وهو الأمر المجتمع عليه عندنا أن الرجل إذا لم يضر بالمرأة ولم يسىء إليها ولم تؤت من قبله، وأحبت فراقه، فإنه يحل له أن يأخذ منها كل ما افتدت به، كما فعل النبى صلى الله عليه وسلم فى امرأة ثابت، وإن كان النشوز من قبله بأن يضر بها ويضيق عليها رد عليها ما أخذ منها، روى هذا عن ابن عباس، وعامة السلف، وبه قال الثورى، وإسحاق، وأبو ثور‏.‏

وقال أبو حنيفة‏:‏ إن كان النشوز من قبله لم يحل له أن يأخذ مما أعطاها شيئًا ولا يزداد، فإن فعل جاز فى القضاء، وروى ابن القاسم عن مالك مثله، وهذا القول خلاف ظاهر كتاب الله، وخلاف حديث امرأة ثابت، وإنما فيه أخذ الفدية من الناشز لزوجها إذا كان لنشوزها كارهًا، وللمقام معها محبًا، وإن كانت الإساءة من قبله، لم يجز له أن يأخذ منها شيئًا؛ لقول الله تعالى‏:‏ ‏{‏وإن أردتم استبدال زوج مكان زوج‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 20‏]‏ الآية‏.‏

قال مجاهد‏:‏ مجامعة النساء والميثاق الغليظ كلمة النكاح التى تستحل بها فروجهن، فجعله ثمنًا للإفضاء‏.‏

قال ابن المنذر‏:‏ واحتج بعض المخالفين، فقال‏:‏ لما جاز أن يأخذ مالها إذا طابت به نفسًا على غير طلاق، جاز له أن يأخذه على طلاق، قيل‏:‏ هذا غلط كبير؛ لأنه حمل ما حرمه الله فى كتابه من أبواب المعاوضات على ما أباحه من سائر أبواب العطايا المباحة، أفيجوز لهذا القائل أن يشبه ما حرم الله من الربا فى كتابه بما أباح من العطايا على غير عوض، فنقول‏:‏ لما أبيح لى أن أهب مالى بطيب نفس من غير عوض، جاز لى أن أعطيه فى أبواب الربا بعوض، فإن قال‏:‏ لا يجوز ذلك، فليعلم أنه قد أتى مثل ما أنكر فى باب الربا حيث شبه قوله‏:‏ ‏(‏فإن طبن لكم عن شىء منه نفسًا فكلوه هنيئًا مريئًا‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 4‏]‏ بما حرم فى قوله‏:‏ ‏(‏ولا يحل لكم أن تأخذوا مما آتيتموهن شيئًا إلا أن يخافا أن لا يقيما حدود الله‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 229‏]‏‏.‏

وفى حديث ابن عباس دلالة على فساد قول من قال‏:‏ لا يجوز له أخذ الفدية منها حتى تكون من كراهيته لها على مثل ما هى عليه، وهو قول طاوس والشعبى، وروى مثله عن القاسم بن محمد، وسعيد بن المسيب‏.‏

قال الطبرى‏:‏ وذلك أن امرأة ثابت أتت النبى صلى الله عليه وسلم شاكية، فقالت له‏:‏ لا أنا ولا ثابت، فقال لها‏:‏ ‏(‏أتردين عليه حديقته‏؟‏‏)‏، ولم يسأل ثابتًا هل أنت لها كاره كراهيتها لك‏؟‏ فإن ظن أن قوله‏:‏ ‏(‏ولا يحل لكم‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 229‏]‏ الآية، يدل أن الزوج إنما أبيح له أخذ الفدية إذا خاف من كل واحد منهما ببغض صاحبه النقص فى الواجب له عليه، قيل‏:‏ هو خطاب لجميع المؤمنين، وكان معلومًا أن المرأة إذا أظهرت لزوجها البغضة، لم يؤمن عليها النشوز والتقصير على حق زوجها، وإذا كان ذلك لم يؤمن من زوجها مثل ذلك من التقصير فى الواجب عليه، وروى عن ابن سيرين أنه قال‏:‏ لا يحل للزوج الخلع حتى يجد على بطنها رجلاً، وهذا خلاف الحديث‏.‏

واختلفوا فى الخلع بأكثر مما أعطاها، فقالت طائفة‏:‏ لا يجوز له الخلع بأكثر من صداقها، هذا قول عطاء، وطاوس، وكره ذلك ابن المسيب، والشعبى، والحكم، وقال الأوزاعى‏:‏ كانت القضاة لا يجيزون أن يأخذ منها أكثر مما ساق إليها، وبه قال أحمد، وإسحاق، قالوا‏:‏ وهو ظاهر حديث ثابت؛ لأن امرأته إنما ردت عليه حديقته فقط‏.‏

وقالت طائفة‏:‏ يجوز أن يأخذ منها أكثر مما أعطاها، وهو مذهب عثمان بن عفان، وابن عمر، وقبيصة، والنخعى، وبه قال مالك، وأبو حنيفة، والشافعى، وأبو ثور، وقال مالك‏:‏ يجوز أن يأخذ منها أكثر مما ساق إليها، وليس من مكارم الأخلاق، قال‏:‏ ولم أر أحدًا ممن يقتدى به يكره ذلك، وقد قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏فلا جناح عليهما فيما افتدت به‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 229‏]‏، وقد نزع بهذه الآية قبيصة بن ذؤيب‏.‏

قال إسماعيل بن إسحاق‏:‏ وقد احتج بهذه الآية من قال‏:‏ لا يجوز أن يأخذ منها أكثر مما ساق إليها، وليس كما ظن، ولو قال إنسان‏:‏ لا تضربن فلانًا إلا أن تخاف منه شيئًا، فإن خفته فلا جناح عليك فيما صنعت به لكان مطلقًا له أن يصنع به ما شاء‏.‏

ومعنى قول البخارى‏:‏ وأجاز عثمان الخلع دون عقاص رأسها، يعنى أن يأخذ منها كل ما لها إلى أن يكشف لها رأسها ويترك لها قناعها وشبهه مما لا كثير قيمة له، وقد قال عمر‏:‏ اخلعها ولو من قرطها‏.‏

وأما قوله‏:‏ باب الخلع وكيف الطلاق فيه، فاختلف العلماء فى البينونة بالخلع، فروى عن عثمان، وعلى، وابن مسعود، أن الخلع تطليقة بائنة، إلا أن تكون سميت ثلاثًا فهى ثلاث، وهو قول مالك، والثورى، والكوفيين، والأوزاعى، وأحد قولى الشافعى، وقالت طائفة‏:‏ الخلع فسخ وليس بطلاق إلا أن ينويه، روى هذا عن ابن عباس، وطاوس، وعكرمة، وبه قال أحمد، وإسحاق، وأبو ثور، وهو أحد قولى الشافعى، واحتج فى أنه ليس بطلاق؛ لأنه مأذون فيه لغيره قبل العدة بخلاف الطلاق، قال ابن عباس‏:‏ قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 228‏]‏، ثم قال‏:‏ ‏{‏فلا جناح عليهما فيما افتدت به‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 229‏]‏، ثم ذكر الطلاق بعد الفداء، ولم يذكر فى الفداء طلاقًا، فلا أراه طلاقًا‏.‏

واحتج من جعله طلاقًا بقوله فى الحديث‏:‏ فردت الحديقة، وأمره بفراقها، فصح أن فراق الخلع طلاق‏.‏

قال الطحاوى‏:‏ روى عن عمر، وعلى، أن الخلع طلاق، وعن عثمان، وابن عباس، أنه ليس بطلاق‏.‏

قال‏:‏ وأجمعوا أنه لو أراد به الطلاق لكان طلاقًا، ولما كان يقع به الفرقة عند الجميع بغير نية، علم أنه ليس كالمكنى الذى يحتاج إلى نية، وعلم أنه طلاق‏.‏

وقال الشافعى‏:‏ فإن قيل‏:‏ فإذا جعلته طلاقًا فاجعل فيه الرجعة‏.‏

قيل له‏:‏ لما أخذ من الطلقة عوضًا كان كمن ملك عوضًا بشىء خرج من ملكه، فلم يكن له رجعة فيما ملك عليه، فكذلك المختلعة‏.‏

وقوله‏:‏ وأجاز عمر الخلع دون السلطان، فهو قول الجمهور، إلا الحسن، وابن سيرين، فإنهما قالا‏:‏ لا يكون إلا عند السلطان‏.‏

وقال قتادة‏:‏ إنما أخذه الحسن عن زياد‏.‏

وقال الطحاوى‏:‏ روى عن عثمان، وابن عمر جوازه دون السلطان، وكما جاز النكاح والطلاق دون السلطان كذلك الخلع‏.‏

باب الشِّقَاقِ، وَهَلْ يُشِيرُ بِالْخُلْعِ عِنْدَ الضَّرُورَةِ‏؟‏

وَقَوْلِهِ تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 35‏]‏ الآية - فيه‏:‏ الْمِسْوَر، قَالَ النَّبِىّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إِنَّ بَنِى الْمُغِيرَةِ اسْتَأْذَنُوا فِى أَنْ يَنْكِحَ عَلِىٌّ ابْنَتَهُمْ، فَلا آذَنُ‏)‏‏.‏

قال المهلب‏:‏ إنما حاول البخارى بإدخال حديث المسور فى هذا الباب أن يجعل قول النبى صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏فلا آذن‏)‏ خلعًا، ولا يقوى هذا المعنى؛ لأنه قال فى الحديث‏:‏ ‏(‏إلا أن يريد ابن أبى طالب أن يطلق ابنتى‏)‏، فدل على الطلاق، فإن أراد أن يستدل من دليل الطلاق على الخلع، فهو دليل على دليل، وذلك ضعيف، وإنما فيه الشقاق والإشارة بالطلاق من خوفه، وفيه الحكم بقطع الذرائع؛ لأنه تعالى أمر ببعثه الحكمين عند خوف الشقاق قبل وقوعه‏.‏

وأجمع العلماء أن المخاطب بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإن خفتم شقاق بينهما‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 3‏]‏ الحكام والأمراء، وأن قوله‏:‏ ‏(‏إن يريدا إصلاحًا يوفق الله بينهما‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 3‏]‏، يعنى الحكمين، وأن الحكمين لا يكونان إلا أحدهما من أهل الرجل، والثانى من أهل المرأة إلا أن يوجد من أهلهما من يصلح لذلك فيرسل من غيرهما، وأن الحكمين إذا اختلفا لم ينفذ قولهما، وأن قولهما نافذ فى الجمع بينهما بغير توكيل من الزوجين‏.‏

واختلفوا فى الفرقة بينهما هل تحتاج إلى توكيل من الزوجين أم لا‏؟‏ فقال مالك، والأوزاعى، وإسحاق‏:‏ يجوز قولهما فى الفرقة والاجتماع بغير توكيل من الزوجين ولا إذن منهما فى ذلك، روى هذا عن عثمان، وعلى بن أبى طالب، وابن عباس، وعن الشعبى، والنخعى‏.‏

وقال الكوفيون والشافعى‏:‏ ليس لهما أن يفرقا إلا أن يجعل الزوج إليهما التفريق، وهو قول عطاء، والحسن، وبه قال أبو ثور، وأحمد‏.‏

واحتج أبو حنيفة بقول على للزوج‏:‏ لا تبرح حتى ترضى بما رضيت به، فدل أن مذهبه لا يفرقان إلا برضا الزوج، قالوا‏:‏ والأصل المجتمع عليه أن الطلاق بيد الزوج أو بيد من جعل ذلك إليه وجعله من باب طلاق السلطان على المولى والعنين‏.‏

قال ابن المنذر‏:‏ ولما كان المخاطبون بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فابعثوا حكمًا من أهله وحكمًا من أهلها‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 35‏]‏ الحكام وأن ذلك إليهم، دل على أن التفريق إليهم، ولو لم يكن كذلك ما كان للبعثة معنى‏.‏

وقال مالك فى الحكمين يطلقان ثلاثًا، قال‏:‏ تكون واحدة، وليس لهما الفراق بأكثر من واحدة بائنة‏.‏

وقال ابن القاسم‏:‏ تلزمه الثلاث إن اجتمعا عليها على حديث زيد، وقاله المغيرة، وأشهب، وابن الماجشون، وأصبغ‏.‏

وقال ابن المواز‏:‏ إن حكم أحدهما بواحدة والآخر بثلاث فهى واحدة، وحكى ابن حبيب، عن أصبغ، أن ذلك ليس بشىء‏.‏

باب لا يَكُونُ بَيْعُ الأمَةِ طَلاقًا

- فيه‏:‏ عَائِشَةَ، قَالَتْ‏:‏ كَانَ فِى بَرِيرَةَ ثَلاثُ سُنَنٍ، أَنَّهَا أُعْتِقَتْ، فَخُيِّرَتْ فِى زَوْجِهَا، وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏الْوَلاءُ لِمَنْ أَعْتَقَ‏)‏، وَدَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَالْبُرْمَةُ تَفُورُ بِلَحْمٍ، فَقُرِّبَ إِلَيْهِ خُبْزٌ وَأُدْمٌ مِنْ أُدْمِ الْبَيْتِ، فَقَالَ‏:‏ ‏(‏أَلَمْ أَرَ الْبُرْمَةَ فِيهَا لَحْمٌ‏)‏‏؟‏ قَالُوا‏:‏ بَلَى، وَلَكِنْ ذَلِكَ لَحْمٌ تُصُدِّقَ بِهِ عَلَى بَرِيرَةَ، وَأَنْتَ لا تَأْكُلُ الصَّدَقَةَ، قَالَ‏:‏ ‏(‏هو عَلَيْهَا صَدَقَةٌ، وَلَنَا هَدِيَّةٌ‏)‏‏.‏

اختلف السلف هل يكون بيع الأمة وعتقها طلاقًا لها‏؟‏ فروى عن عمر بن الخطاب، وعبد الرحمن بن عوف، وسعد بن أبى وقاص، أنه لا يكون ذلك طلاقًا لها، وهو مذهب كافة الفقهاء‏.‏

وقالت طائفة‏:‏ بيعها طلاق لها، روى ذلك عن ابن مسعود، وابن عباس، وأبى بن كعب، ومن التابعين سعيد بن المسيب، والحسن، ومجاهد، واحتجوا بقوله‏:‏ ‏(‏والمحصنات من النساء إلا ما ملكت أيمانكم‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 24‏]‏، قال‏:‏ فحرم الله علينا المزوجات من النساء، إلا إذا ملكتهن أيماننا فهن حلال لنا؛ لأن البيع لها حدوث ملك فيها، فوجب أن يرتفع حكم النكاح، ويبطل دليله الأمة المسبية ذات الزوج‏.‏

وحجة الجماعة أن بيعها ليس بطلاق لها، أن بريرة عتقت فخيرت فى زوجها، فلو كان طلاقها يقع ببيعها لم يخبرها رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد ذلك عند العتق ويقول لها‏:‏ ‏(‏إن شئت أقمت تحته‏)‏، وأيضًا فإن هذا عقد على منفعة، فوجب ألا يبطله بيع الرقبة، دليله إذا باع رقبة مستأجرة؛ لأن النكاح عقد على منفعة والإجارة كذلك، ثم إن البيع لا يبطل الإجارة كذلك لا يبطل النكاح، وأيضًا فإن انتقال ملك رقبة أحد الزوجين من مالك إلى مالك، فوجب ألا يبطل النكاح، دليله إذا بيع الزوج، ولما لم يمنع ملك البائع صحة النكاح كان ملك المبتاع مثله؛ لأنه يقوم مقامه وهو فرع منه‏.‏

فإن قالوا‏:‏ إن الأمة الحربية إذا كانت مزوجة، فإنها إذا استرقت تنتقل من ملك إلى ملك، ومع هذا ينفسخ النكاح عندكم‏.‏

فالجواب‏:‏ إن قلنا‏:‏ لا ينفسخ على إحدى الروايتين كالحربية إذا سبيت سقط سؤالهم، وإن قلنا‏:‏ ينفسخ على الرواية الأخرى، فالفرق بينهما أن الحربى لا يملك، وإنما له شبهة ملك، فإذا سبيت ملكها المسبى ملكًا صحيحًا، فليس تنتقل من ملك صحيح، وليست كذلك مسألتنا، ولا حجة لهم فى الآية أنها نزلت فى سبى أوطاس خاصة، وتحرج بعض أصحاب النبى صلى الله عليه وسلم من وطئهن خوفًا أن يكون لهن أزواج، فسألوا النبى صلى الله عليه وسلم عن ذلك، فأنزل الله الآية‏.‏

فالمراد بها المسبيات إذا حضن قبل أن يحضر أزواجهن أو يسلمن معًا، فإنه يحل وطؤهن وإن كان لهن أزواج مشركون، فأما إن أسلمن وأسلم أزواجهن معًا، فهن على نكاحهن، وستأتى هذه المسألة فى موضعها، إن شاء الله‏.‏

وفيه‏:‏ أن الناس على عهد النبى صلى الله عليه وسلم لم يكونوا يستنكرون هدية بعضهم لبعض الطعام والشىء الذى يؤكل وما لا يعظم خطره، والدليل على ذلك قوله عليه السلام‏:‏ ‏(‏لو أهدى إلى كراع لقبلت‏)‏؛ لأنه لم ينكر من بريرة أن أهدت اللحم ولا أنكر قبول عائشة له‏.‏

وفيه‏:‏ أن من أهديت إليه هدية قلت أو كثرت ألا يردها، فإن أطاق المكافأة عليها فعل، وإن لم يقدر على ذلك أثنى عليه بها وشكرها؛ لما روى عن النبى صلى الله عليه وسلم فى ذلك‏.‏